الاقتصاد الروسي بين الحرب والعقوبات الغربية.. قراءة في عوامل الصمود وأبرز الدروس المستفادة

دولية
الاقتصاد الروسي بين الحرب والعقوبات الغربية.. قراءة في عوامل الصمود وأبرز الدروس المستفادة
١٥ دقيقةللقراءة
تاريخ النشر: ٣ أغسطس ٢٠٢٥

الاقتصاد الروسي بين الحرب والعقوبات الغربية.. قراءة في عوامل الصمود وأبرز الدروس المستفادة

تُعَدُّ العقوبات الاقتصادية والضغوط الغربية على روسيا جزءًا أساسيًّا من مشهد العلاقات الروسية الغربية، حيث ظلَّت العقوبات الغربية حاضرة عند الحديث عن العلاقات مع روسيا في ظلِّ التنافس المُحتدم طيلة عقود عدة بين الجانبين؛ غير أنَّ التدخل الروسي في سوريا وجورجيا وأوكرانيا وإفريقيا قد أعاد تنظيم إستراتيجية العقوبات الغربية، لتتحول بذلك إلى حرب اقتصادية شاملة تهدف إلى إضعاف الاتحاد الروسي إلى أقصى حدٍّ ممكن، وصولًا إلى قبول موسكو بالشروط والإملاءات الغربية. وأمام تلك الإستراتيجية الغربية الشاملة، استطاعت موسكو التأقلم مع مشهد الضغوط الغربية عبر إستراتيجية مضادة لافتة، مكَّنت الكرملين من الحفاظ على استقلالية القرار السياسي للاتحاد الروسي. فما تاريخ العقوبات الغربية على الاتحاد الروسي وأشكالها المختلفة؟ وما مدى جدوى سياسة العقوبات الغربية على الاتحاد الروسي وتأثيراتها المختلفة؟ ماذا عن إستراتيجية موسكو المضادة وعوامل صمود الاقتصاد الروسي في ظل حزم العقوبات الغربية المتتالية على روسيا؟ ماذا عن سياسة العقوبات بشكل عام وكيف تستخدمها القوى الغربية لفرض قواعد جديدة على الساحة العالمية؟ وكيف تنظر الدول النامية إلى مشهد العقوبات الغربية على روسيا؟ وفي ظل ضعف تأثير العقوبات الغربية على روسيا وتنوع طرق الاحتواء الروسي، كيف يمكن قراءة مستقبل سياسة العقوبات الغربية خلال السنوات القادمة؟ يسلِّط مركز "رواق" للأبحاث والرؤى والدراسات، في هذا التقرير عبر دراساته وتحليلاته المختلفة، الضوء على سياسة العقوبات الغربية على الاتحاد الروسي وإستراتيجية الدولة الروسية في احتواء العقوبات الغربية وتأثيراتها على الدولة والمجتمع في روسيا، في هذه السطور الآتية. تاريخ العقوبات الغربية على الاتحاد الروسي وأشكالها المختلفة: يعود تاريخ العقوبات الغربية ضد الاتحاد الروسي إلى عام 2007م، حيث فرضت أوروبا أول إجراءات تجميد أصول وحظر سفر بحق أفراد روس اتَّهَمَتهم بروكسل بانتهاكات حقوق الإنسان، قبل أن يتوسَّع تطبيق هذه القوائم لاحقًا لتشمل مسؤولين أمنيين ورجال أعمال خلال الحرب الروسية الجورجية أواسط العام 2008م (اقتصاد الشرق). وفي عام 2012م، أصدر الكونغرس الأمريكي "قانون ماغنيتسكي" الذي ينصُّ على معاقبة الشخصيات الروسية المسؤولة عن وفاة مُحاسب الضرائب "سيرغي ماغنيتسكي" في سجنه في موسكو عام 2009م، مع حظر تصدير المعدَّات الأمنية للكرملين. وخلال أزمة شبه جزيرة القرم ومنطقة دونباس في عام 2014م، فرضت الولايات المتحدة في مارس من ذات العام حزمة أولى من العقوبات ضد مسؤولين روس وبنوك وشركات دفاعية، شملت تجميد عقارات وحظر تأشيرات لأكثر من 70 شخصًا، وفي يوليو من نفس العام أعادت واشنطن تشديد قيود التصدير ووسَّعت لائحة المستهدفين لتصل إلى نحو 150 شخصية وشركة روسية. كما شرع الاتحاد الأوروبي في مارس 2014م بتجميد أصول وحظر سفر لمسؤولين ورجال أعمال روس، ثم فرض حظرًا على تصدير أسلحة وتقنيات نفطية حسَّاسة، وأدرج بنوكًا كبرى على قوائم "سويفت" لاحقًا، كما مدَّدت دول أوروبا والولايات المتحدة عقوباتها المتبادلة على روسيا في صيف عام 2018م لستة أشهر إضافية، مع ضبط وإعادة تقييم دوري لقوائم الأفراد والكيانات المحظورة (بي بي سي عربي). ومع تعقُّد العلاقات الروسية الغربية ووصولها حدَّ المواجهة في أوكرانيا، مع دعم القوى الغربية للنظام الأوكراني المناهض للروس، تصاعدت وتيرة العقوبات وتنوَّعت إلى مجموعة من الحزم التي طالت معظم قطاعات الاقتصاد والمجتمع والدولة في روسيا. ففي فبراير عام 2022م، ومع بدء الحرب الروسية الأوكرانية، عمدت القوى الغربية إلى تجميد أصول البنك المركزي الروسي بقيمة 168 مليار دولار، وحظر شراء سنداته الحكومية من قبل الغرب، وقطع سبعة بنوك روسية رئيسية من نظام "سويفت" المالي، وتوسيع القائمة السوداء لتشمل نحو 1000 فرد وشركة. إلى جانب حظر استيراد النفط والغاز، ومنع تصدير التقنيات المتطورة مثل أشباه الموصلات، ومعدَّات التنقيب والتعدين، وبحلول نهاية 2022م جرى حظر استيراد الفحم الروسي بنسبة 100%، وفرضت مجموعة دول السبع الصناعية الكبرى والاتحاد الأوروبي آلية سقف السعر على نفط بحر البلطيق لمنع ارتفاع عائدات الكرملين. كما شملت القيود النقل البحري والجوي، من خلال حظر تأمين السفن، وحظر خدمات الشحن والتأمين البحري للنفط الروسي (الشرق الأوسط). وخلال العام 2023م، فرضت القوى الغربية الحزمتين الخامسة والسادسة من العقوبات على روسيا، والتي اشتملت على حظر استيراد الحديد والصلب، وفرض قيود على تصدير الأجهزة الإلكترونية والبرمجيات المتقدِّمة، وتوسيع حظر الصادرات الرقمية مثل برمجيات التشفير، وخدمات الإنترنت، وإضافة قيود جديدة على شركات الاتصالات والفضاء الروسية. إلى جانب رفع عدد المستهدفين على القوائم السوداء إلى أكثر من 1800 فرد وكيان، وحظر التعامل مع شركات أمنية وسيادية، وتوالت حزم العقوبات الغربية حتى بلغت في يونيو 2025م نحو 17 حزمة مختلفة بإجمالي نحو 29 ألف عقوبة بحسب تقرير لمؤشر العقوبات العالمي Castellum.AI. وبالنظر إلى تنوُّع حزم العقوبات الغربية واستهدافها لمعظم مؤسسات الدولة والمجتمع وكافة القطاعات الاقتصادية الرئيسية في الاتحاد الروسي، فإنَّ سياسات العقوبات الغربية اتجاه الاتحاد الروسي تعكس محاولات القوى الغربية إضعاف روسيا إلى أقصى حدٍّ ممكن، وصولًا إلى محاولة إلحاق هزيمة إستراتيجية بالجيش الروسي في أوكرانيا، بحسب تصريحات المسؤولين الروس، ما يعكس اتِّساع الفجوة في العلاقات الروسية الغربية وغياب أدوات الحوار، ومحاولات القوى الغربية فرض نظامها العالمي الليبرالي في كامل منطقة أوراسيا. إذ لا تقتصر العقوبات الغربية على قطاعات التصنيع العسكري فقط، بل إنَّ وضع قيود واستهداف حركة التجارة بين روسيا وشركائها التجاريين في مجالات الرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات والتكنولوجيا الرقمية، ومحاولات الدفع باتجاه إنهاء التعاون الروسي الغربي في مجالات الفضاء، مثل محطة الفضاء الدولية وتكنولوجيا الصواريخ الفضائية، جميعها عوامل تبرز محاولات القوى الغربية استهداف التطوُّر التكنولوجي والصناعي في الاتحاد الروسي، كمحاولة لإدخال روسيا في ركود اقتصادي وتخلُّف تقني طويل الأمد، على غرار ما كانت عليه روسيا خلال تسعينيات القرن الماضي. جدوى سياسة العقوبات الغربية على الاتحاد الروسي وتأثيراتها المختلفة: إنَّ تنوُّع العقوبات الغربية على روسيا وامتدادها إلى الشركاء التجاريين للاتحاد الروسي، مثل فرض عقوبات غربية على عدد من الشركات الصينية لاستمرار تعاونها التجاري مع الاتحاد الروسي، يعكس إستراتيجية غربية متكاملة وطويلة الأمد. فعلى صعيد التصريحات الرسمية، فإنَّ الغرب استهدف روسيا بهدف معاقبتها على ضمِّ شبه جزيرة القرم عام 2014م وغزو أوكرانيا عام 2022م، وخلق ثمن سياسي واقتصادي باهظ مقابل هذا "العدوان". فحظر تصدير أشباه الموصلات ومعدَّات التنقيب والتقنيات الدفاعية يهدف إلى منع الكرملين من تطوير وتعزيز قدراته القتالية (اندبندنت عربية). غير أنَّ الولايات المتحدة، وبدعم حلفائها الغربيين، وبالنظر إلى تاريخ التنافس المُحتدم بين موسكو وواشنطن منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تسعى إلى إضعاف الاتحاد الروسي إلى أقصى حدٍّ ممكن، على غرار ما كان عليه إبان تفكُّك الاتحاد السوفيتي، وتولِّي "بويلس يلتسن" رئاسة روسيا خلال تسعينيات القرن الماضي. وبالتالي: توسُّع نفوذ الولايات المتحدة إلى منطقة القوقاز وآسيا الوسطى، والهيمنة الجيوإستراتيجية عبر منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) على كامل أوروبا ومنطقة أوراسيا، والتأسيس لتحالفات جديدة في أوراسيا لمواجهة الصين في منطقة شرق آسيا. وفي ظل حزم العقوبات المتتالية، تعرَّض الاقتصاد الروسي خلال الأيام الأولى للحرب الروسية الأوكرانية لهزَّات عنيفة. حيث خسر الاقتصاد الروسي نحو 6% من حجمه في عام 2022م بفعل ارتفاع تكاليف التمويل وهروب رؤوس الأموال، قبل أن تعكس تقارير صندوق النقد الدولي تعافيًا سريعًا بنسبة نمو بلغت نحو 4.7% في عام 2023م. كما قفزت معدلات التضخُّم إلى أكثر من 40% بحلول ربيع عام 2022م، مدفوعة بتراجع قيمة الروبل وانقطاع الإمدادات. وسريعًا ما بادرت مديرة البنك المركزي "إلفيرا نابيولينا" برفع سعر الفائدة القياسي من نحو 9.5% إلى 20% في نهاية فبراير عام 2022م، مما أدَّى إلى دعم قيمة الروبل وكبح موجة الهروب من العملة المحلية واحتواء ضغوط التضخُّم الحادة (المركز المصري للفكر والدراسات الإستراتيجية). وسجَّلت الاستثمارات الأجنبية المباشرة هبوطًا حادًّا يتراوح بين 60% و75% بسبب مخاوف انعدام الشفافية وعزوف الشركات الغربية عن المخاطرة بالسوق الروسي. وأدَّت سياسة عزل بنوك روسية رئيسية عن نظام "سويفت" وتجميد أصول البنك المركزي الروسي البالغة 168 مليار دولار إلى رفع تكلفة الاقتراض الداخلي وعجز الشركات عن تمويل المشاريع الكبرى. فخلال الأشهر الستة الأولى للحرب الروسية الأوكرانية، تعرَّض اقتصاد الاتحاد الروسي لسلسلة من الهزَّات، مع توقُّعات المؤسسات الاقتصادية الدولية بمزيد من الانهيارات والعقبات طويلة الأمد التي ستواجِه البلاد، قبل أن تتمكَّن الحكومة الروسية من احتواء تداعيات العقوبات الغربية. الإستراتيجية الروسية الاقتصادية لمواجهة العقوبات الغربية وعوامل صمود الاقتصاد الروسي: وذلك عبر تحرُّكات موسكو السريعة لتوسيع شراكاتها مع الصين والهند ودول آسيا وإفريقيا، خاصة في قطاعات الطاقة والحبوب والأسمدة لتقليل الاعتماد على الأسواق الغربية. إذ شملت الإجراءات الروسية تسعير النفط والغاز بالعملات المحلية مثل اليوان، وإلزام الدول الأوروبية بسداد التزاماتها المالية لقاء إمدادات الغاز الطبيعي والنفط الروسي بالروبل الروسي بدلًا من اليورو والدولار الأمريكي، ما زاد الطلب على الروبل الروسي وساهم في احتواء تدهور قيمته. كما ربطت روسيا التجارة بنظام المدفوعات الصيني CIPS، إلى جانب تطوير شبكة الدفع الوطنية "مير" بدلًا من الاعتماد على نظام "سويفت". حيث أطلقت الحكومة الروسية نظام الدفع "مير" عام 2014م عقب العقوبات الغربية التي أتت رفقة ضمِّ روسيا لشبه جزيرة القرم لتعزيز السيادة المالية، إذ أدَّى نظام الدفع الروسي "مير" دورًا محوريًّا في توازن الاقتصاد المالي والنقدي في البلاد وتنظيم المدفوعات التجارية مع شركاء روسيا في شرق وجنوب آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. هذا وافتتحت قنوات ائتمانية عبر صندوق الثروة السيادية لتوفير السيولة للمستوردين والصادرات، كما سارعت الحكومة الروسية في العمل على إصدار الروبل الرقمي وربطه بالاقتصاد الحقيقي لضمان استمرارية المعاملات رغم الحظر المالي. كما أطلقت روسيا برامج ضخمة لدعم الإنتاج المحلي في قطاعات الزراعة والأسمدة والماكينات الثقيلة، مع منح قروض مدعومة وأسعار فائدة منخفضة للشركات الوطنية؛ حيث أسهمت هذه الإجراءات في خفض الواردات الأساسية بنسبة تتراوح بين 60% إلى 70% في بعض القطاعات بحلول نهاية عام 2023م، ما عزَّز الاستقرار الغذائي والصناعي داخليًا، واستعانت موسكو بجمود احتياطياتها من الذهب والعملات الصعبة في البنوك الغربية لامتصاص صدمات السوق (مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدِّمة). إذ أعادت توجيه نحو 630 مليار دولار من هذه الاحتياطيات إلى صندوق سيادي استثماري طويل الأجل، يدعم مشروعات البنية التحتية ويضاعف المخزون الإستراتيجي للسلع الحيوية. وفيما يتعلَّق بالحوافز وسياسة دعم الشركات، فقد قدَّمت الحكومة حزم قروض ميسَّرة للشركات المتضرِّرة وخفَّضت الضرائب على أرباحها، كما عقدت شراكات مع البنوك المحلية لضخِّ سيولة إضافية، ورفعت الرسوم الجمركية على السلع غير الحيوية لتعزيز الإيرادات العامة، فساهم ذلك في تلطيف أعباء التمويل وضمان انسيابية القروض والاستثمارات الداخلية. وعلى مستوى ضبط حركة رؤوس الأموال، فقد فرضت مديرة البنك المركزي الروسي "إلفيرا نابيولينا" قيودًا على سحب العملة الصعبة وتحويل الأرباح للخارج، بما في ذلك حظر مؤقَّت لتسديد أرباح المستثمرين الأجانب في السندات الحكومية، كما أنشأ البنك آليات تمويل ميسَّرة للبنوك عبر عمليات "ريبو" واجتماعات نقدية منتظمة، إضافة إلى رفع متطلَّبات احتياطي رأس المال بالعملات الأجنبية وتوفير قروض قصيرة الأجل بفوائد تفضيلية، مما حافظ على انتظام الإقراض وسداد الالتزامات المصرفية. وكان من اللافت أنَّ العقوبات شجَّعت تنامي مشاريع التكنولوجيا المالية المحلية في الداخل الروسي، مثل مبادرات "البلوك تشين" لإصدار أصول رقمية مرتبطة بالروبل، وفرضت حوافز لإدماج العملات الرقمية في التداولات المالية الحكومية والتجارية. ومع دخول الحرب الروسية الأوكرانية عامها الرابع في 24 من فبراير 2025م، فإنَّ مشهد الاقتصاد الروسي يعكس نجاح قدرة الحكومة الروسية على احتواء تداعيات العقوبات الغربية وإضعاف تأثيراتها على الدولة والمجتمع. إذ انخفضت حصة الاتحاد الأوروبي من الصادرات الروسية من نحو 53% قبل الحرب إلى نحو 35% بحلول نهاية عام 2024م، وارتفعت شحنات الطاقة إلى الصين والهند لتشكل حوالي 29% من الإجمالي، إلى جانب المبادرات الحكومية الهادفة إلى تطوير صناعة أشباه الموصلات والتقنيات المتقدِّمة، وتزايد إنتاج المجمع الصناعي العسكري الروسي (مركز الدراسات العربية الأوراسية). كما نجحت مديرة البنك المركزي الروسي "إلفيرا نابيولينا" بمزيج من رفع الفائدة، وضوابط رأس المال، ودعم مصارف الداخل، إلى جانب تطوير بدائل تقنية للدفع، في كبح جماح الضغوط النقدية وضمان استمرار وظائف القطاع المصرفي، رغم العقوبات. فجميعها عوامل تعكس نجاح إستراتيجية الحكومة الروسية في إضعاف تأثير العقوبات رغم استمرار اضطراب بعض المؤشرات الاقتصادية مثل التضخُّم والذي يتراوح بين 25% إلى 35%. إستراتيجية العقوبات الغربية بشكل عام: تُعَدُّ العقوبات الاقتصادية والتجارية، والضغوط السياسية والدبلوماسية، أحد أدوات القوى الغربية في تشكيل مشهد النظام العالمي بما يتوافق مع تصوُّرات الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين في النظام الليبرالي العالمي؛ إذ تتمثَّل الأهداف العامة لإستراتيجية العقوبات الغربية في ممارسة الضغوط لتغيير سلوك الدولة أو النظام المستهدف، عبر خلق تكاليف سياسية واقتصادية كبيرة، وصولًا إلى محاولة إسقاطه نتيجة تراكم التحدِّيات الداخلية أمام العقوبات التي تفرضها القوى الغربية. هذا إلى جانب منع وصول الموارد الحيوية مثل التمويل والتقنيات المتقدِّمة والأسلحة التي تعزِّز القدرة على مواصلة السياسات أو الإجراءات المرفوضة من قبل الغرب، وتوجيه رسالة رادعة للدول الأخرى من خلال إبراز فعَّالية أدوات العقوبات ونجاعتها في تحقيق الأهداف. وتُبنى العقوبات الغربية على عدَّة أدوات، منها العقوبات المالية والنقدية، وتتمثَّل في تجميد أصول الحكومة والأفراد المرتبطين بها في البنوك الغربية، ومنع المؤسسات المالية من التعامل مع مصارف مستهدفة أو إدراجها على قوائم "سويفت"، وفرض قيود على شراء سندات الدين السيادي والتأمين المصرفي. وتجاريًا، تتمثَّل العقوبات الغربية في حظر تصدير واستيراد سلع إستراتيجية، مثل النفط والغاز والمعادن والتكنولوجيا الدفاعية أو مزدوجة الاستخدام، وفرض حظر على استيراد صناعات تقنيات محورية مثل الصناعات الرقمية وأشباه الموصلات. فبهذه الرؤية الشاملة، تسعى الدول الغربية إلى بسط فعَّالية العقوبات عبر مزيج من الأدوات المتنوِّعة، مدعومة بتنسيق دولي صارم ومراقبة مستمرَّة لضمان تحقيق الأهداف. كيف تنظر الدول النامية إلى مشهد العقوبات الغربية على روسيا: وفي ظل مشهد الصراع الروسي الغربي متعدِّد المجالات، تتجنَّب أغلب الحكومات في الدول النامية تأييد العقوبات الغربية بشكل صريح، حرصًا على سيادة قرارها وتوازنها الإستراتيجي، فكثير منها يعتبر العقوبات تجسيدًا لازدواجية المعايير الغربية؛ حيث يأتي فرض قيود صارمة على روسيا بالتزامن مع تجاهل ممارسات أخرى لحلفاء الغرب في مناطق مختلفة من العالم؛ أبرزها: تحرُّكات الكيان المحتلِّ غير القانونية في الشرق الأوسط. كما تظهر توجُّهات رسمية نحو "الحياد الإيجابي" في المحافل الدولية، عبر الامتناع عن التصويت على قرارات شديدة اللهجة ضد روسيا في مجلس الأمن الدولي، وعلى الصعيد الشعبي: ينظر كثيرون إلى العقوبات على أنَّها رسالة تحذيرية لأي دولة تسعى لاستقلال مسارها الاقتصادي أو السياسي عن الغرب. كما ترى عدَّة دول نامية في صمود الاقتصاد الروسي ونجاح الإستراتيجية الاقتصادية الروسية في مواجهة العقوبات الغربية مثالًا يُحتذى به للدول النامية، والتي تواجِه ضغوطات وابتزازًا أمريكيًّا وغربيًّا مستمرًا تحت شعارات واهية، مثل انتهاك حقوق الإنسان أو دعم المنظَّمات والكيانات الإرهابية؛ إذ إنَّ التجربة الروسية والبدائل التي طرحتها موسكو، كالروبل الرقمي ونظام "مير"، من شأنها أن تفتح الطريق أمام إعادة تشكيل مشهد الاقتصاد العالمي على أسس أكثر عدلًا. فبإمكان الدول النامية الاستفادة من التحوُّلات الجارية في مشهد الاقتصاد العالمي، عبر توسيع العلاقات التجارية بعيدًا عن الغرب باتجاه الصين والهند وروسيا ودول جنوب العالم، بما يشمل عقود مقايضة واتفاقيات عملات محلية بديلة وإبرام عقود طاقة وتجارة باليوان والروبل والروبية، وربط الشحنات ونظم المدفوعات بنظام CIPS الصيني وشبكة الدفع "مير" الروسية لتفادي عزلة "سويفت". كما بإمكان الدول النامية بناء وتوجيه الاحتياطيات الوطنية عبر إنشاء صندوق ثروة سيادي يُعيد توجيه جزء من الاحتياطيات المُجمَّدة نحو استثمارات طويلة الأمد في البنية التحتية والزراعة والصناعات الإستراتيجية، وتعزيز مخزون الذهب والسلع الحيوية كملاذات آمنة، والاستعانة بالعملات الصديقة لتغطية احتياجات السيولة عند قطع التمويل الخارجي. فضلًا عن استبدال الواردات وتوطين الإنتاج عن طريق إطلاق برامج قروض مدعومة وضريبة مخفَّضة على الصناعات المحورية؛ مثل: الماكينات الثقيلة والألبان والأدوية، بهدف خفض الاعتماد على الخارج بنسبة تصل إلى 60–70% في بعض القطاعات؛ كما أنَّ فرض ضوابط على تدفُّقات رأس المال بالتنظيم أو الحظر المؤقَّت للتحويلات، ضمانًا لتماسك سعر الصرف وصدِّ موجات الهروب المالي، من شأنه تحصين النظام المالي والمصرفي. وبالتالي: الحدُّ من تأثير العقوبات الغربية على الاقتصادات الوطنية في الدول النامية وتمكين الحكومات من التمتُّع باستقلالية أكبر بعيدًا عن الإملاءات الغربية. مستقبل سياسة العقوبات الغربية في ظل إخفاقها مع روسيا والبدائل الصاعدة: في ظل فشل سياسات العقوبات الغربية على روسيا رغم فرض عشرات الحزم المختلفة، والتي استهدفت القطاعات المالية والتقنية والطاقة، والتي لم تنجح في شلِّ قدرة موسكو الاقتصادية واستمرار الحرب الروسية الأوكرانية والصراع الروسي الغربي، وعودة الاقتصاد الروسي للنمو بنسبة 3.1% عام 2023م، والروبل استعاد توازنه مع الحفاظ على احتياطيات كبيرة بالذهب والعملات الأجنبية. يمكن القول: إنَّ سياسة العقوبات الغربية باتت تواجِه العديد من التحدِّيات؛ أبرزها: نجاح النظام الروسي للدفع بين البنوك SPFS في التوسُّع وضمِّ أكثر من 177 مؤسَّسة مالية من 25 دولة بحلول أبريل 2025م، كما أنَّ النظام الصيني CIPS توسَّع هو الآخر عالميًّا؛ إذ ضمَّت شبكة المدفوعات الصينية 1280 بنكًا من 103 دول حتى أواخر 2021م (روسيا اليوم). وهبطت حصة أوروبا في التمويل الخارجي لروسيا لصالح منطقة آسيا وشرق العالم، كما أنَّ إطالة أمد الصراع الروسي الغربي في أوكرانيا قد تسبَّب في تراجع التزام الشركاء العالميين بالعقوبات الغربية؛ إذ رفضت بعض الدول الالتزام بالعقوبات الثانوية، واستبدلت تعاملاتها مع موسكو بصفقات مقايضة وتجارة بالعملات المحلية، مما قلَّص فعَّالية العقوبات الغربية تدريجيًّا. وفي حين يصل الحظر الغربي إلى معظم المؤسَّسات المالية الروسية، وتُسلَّط العقوبات على كبار الأثرياء، ينخفض العائد المدني والسياسي من متابعة حزم جديدة؛ كما أنَّ استمرار الإمعان في عزلة موسكو يخاطر بتقسيم النظام المالي العالمي إلى كتلتين، ويفتح الباب أمام تآكل هيمنة الدولار وشبكات الدفع الغربية. وهنا تبرز عدَّة سيناريوهات قد يشهدها النظام المالي والنقدي العالمي خلال السنوات القليلة القادمة، منها تحوُّل جزئي للنظام المالي العالمي إلى أنظمة دفع متعدِّدة الأقطاب روسية، وصينية، وهندية وغيرها، ما قد يضعف الاحتكار الغربي ويؤسِّس لعولمة مالية منقسمة. أما السيناريو الثاني، فاستمرار المواجهة الاقتصادية طويلة الأمد، مع تزايد تدفُّقات رأس المال الروسي نحو دول جنوب العالم لتعويض الخسائر الغربية. والسيناريو الثالث فيقوم على احتمال تراجع حدَّة العقوبات الغربية إثر ضغوط اقتصادية داخلية على دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، مع بحث عن بدائل دبلوماسية وعقوبات أقلّ كلفة سياسيًّا واقتصاديًّا. ويبدو أنَّ السيناريو الثالث هو الأقرب إلى التحقُّق، في ظل تعارض المصالح الاقتصادية للشركات الغربية الربحية مع السياسة الغربية تجاه روسيا. الخلاصة: رغم تعدُّد حزم العقوبات الغربية واستهداف القطاعات المالية والتقنية والطاقة، لم تنجح تلك الحزم في شلِّ قدرة روسيا على تمويل الحرب، وعاد الاقتصاد الروسي لنمو سريع تجاوز الـ4.7% مع استقرار متردِّد للروبل؛ إذ اعتمدت موسكو على تنويع الشركاء نحو الصين والهند ودول الجنوب، وتطوير بدائل للمدفوعات مثل SPFS وبطاقة "مير"، وتوطين الإنتاج وتقنين تداول العملات الصعبة داخليًّا. ومن المتوقَّع تشديد القوى الغربية القيود التقنية الذكية على أشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي، وتوسيع العقوبات الثانوية، وتطبيق سقف سعري على النفط، وتعميق التنسيق مع حلفاء آسيويين لضبط المعاملات العابرة للحدود، واستمرار المواجهة الاقتصادية طويلة الأمد ضمن نظام مالي منقسم، مع تحوُّل جزئي نحو شبكات دفع بديلة متعدِّدة الأقطاب. المصادر: اقتصاد الشرق بي بي سي عربي الشرق الأوسط اندبندنت عربية المركز المصري للفكر والدراسات الإستراتيجية مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة مركز الدراسات العربية الأوراسية روسيا اليوم الكلمات المفتاحية: العقوبات الغربية على روسيا – أداء الاقتصاد الروسي – نظام المدفوعات التجارية الروسي – انقسام النظام المالي والنقدي العالمي – الحرب الروسية الأوكرانية

الكلمات المفتاحية

العقوبات الغربية على روسياأداء الاقتصاد الروسينظام المدفوعات التجارية الروسيانقسام النظام المالي والنقدي العالميالحرب الروسية الأوكرانية