سوريا من الداخل بين المركزية والحكم الذاتي.. دراسة تحليلية لتحولات النظام السياسي السوري ما بعد الأسد ودلالاتها المختلفة في ظل تعدد المطالب بالحكم الذاتي

في قلب المشهد السوري المتغير، تبرز إشكالية إعادة تشكيل السلطة السياسية كأحد أكثر التحديات تعقيدًا في مرحلة ما بعد النزاع؛ إذ تتقاطع الرؤى بين مَن يسعى إلى ترسيخ نمط إداري مُوَحَّد مركزي، ومَن يطمح إلى بناء هياكل حكم محلية فِيدْرَالِيَّة تعكس خصوصيات المناطق. وهذا التوتر بين نماذج التنظيم السياسي يعكس تحولات عميقة في فهم الدولة ووظائفها. كما أن تصاعد الأصوات المطالبة بإعادة توزيع الصلاحيات يفتح الباب أمام نقاشات جوهرية حول الهوية الوطنية والتوازن بين المكونات. وفي هذا السياق، يصبح من الضروري تحليل البنية الدستورية المحتملة وآثارها في الاستقرار الداخلي. وتُطرح تساؤلات حول قدرة النظام القادم على استيعاب التعددية دون تفكك أو هيمنة.
فما الأشكال المختلفة لمطالب الحكم الذاتي المطروحة في سوريا؟ وما أبعاد ودوافع تلك المطالب في ظل الدور الواضح للقوى الخارجية في المشهد؟ وماذا عن موقف السلطة السورية المؤقتة من مطالب الحكم الذاتي في ظل التحالفات المحلية مع القوى الخارجية؟ وكيف يمكن قراءة المخاوف المختلفة للداخل السوري والمحيط الإقليمي من مطالب الحكم الذاتي؟ وفي ظل ذلك المشهد كيف يمكن قراءة ملامح النظام السياسي السوري خلال السنوات القادمة؟
يسلط مركز "رواق" للأبحاث والرؤى والدِّرَاسَاتِ، في هذا التقرير عبر دراساته وتحليلاته المختلفة، الضوء على: المخاوف السورية الداخلية والإقليمية من مطالب الحكم الذاتي للمكونات القومية في سوريا، في ظل التحالفات المحلية مع القوى الخارجية وتداعياتها على مستقبل البلاد، في هذه السطور الآتية.
الأشكال المختلفة لمطالب الحكم الذاتي المطروحة في سوريا:
تتعدد مطالب الحكم الذاتي في سوريا وفقًا للتركيبة السكانية والتجارب السياسية المحلية، حيث تبرز نماذج مُسْتَوْحَاة من الإدارة الذاتية الديمقراطية الكردية في الشمال الشرقي، والتي تعتمد على المجالس المحلية والتمثيل المجتمعي. وهذا النموذج يسعى إلى تجاوز المركزية عبر توزيع السلطات على مستويات متعددة، ويعتمد على مبدأ التشاركية في اتخاذ القرار. كما يُرَكِّزُ على تمكين المرأة والأقليات ضمن الهياكل الإدارية، ويُنظَر إليه كبديل للأنظمة التقليدية المركزية. ورغم ذلك، يواجه تحديات في القبول الوطني والاعتراف الدولي (بي بي سي عربي).
وفي مناطق الجنوب السوري، ظهرت مطالب ترتكز على الخصوصية الثقافية والاجتماعية للدروز، وتسعى إلى إدارة محلية مُوَسَّعَة دون الانفصال عن الدولة. وهذه الرؤية تُرَكِّزُ على استعادة الثقة بين السكان والسلطات عبر منح صلاحيات أوسع للمجالس المنتخبة. كما تدعو إلى إعادة توزيع الموارد بما يضمن العدالة التنموية، ويُنظَر إليها كحل لتقليص التوترات الناتجة عن التهميش والإقصاء، إلا أن غياب إطار قانوني واضح يَحُدُّ من فُرَص تطبيقها.
أما في المناطق ذات الغالبية التركمانية أو الآشورية، فالمطالب تتجه نحو حماية الهوية اللغوية والدينية ضمن كيانات إدارية مستقلة نِسْبِيًّا. وهذه المطالب تستند إلى تجارب تاريخية في التنظيم المجتمعي، وتدعو إلى تمثيل سياسي مباشر في المؤسسات الوطنية. كما تطالب بضمانات دستورية تمنع التمييز وتكفل الحقوق الثقافية، ويُطرَح نموذج المناطق الخاصة كخيار عملي، لكن هذه الرؤية تصطدم أحيانًا بمخاوف من التقسيم أو الانعزال.
وفي بعض المناطق الريفية، تبرز مطالب ترتكز على الإدارة المجتمعية التقليدية، حيث يُعَادُ تفعيل دور الوجهاء واللجان المحلية في تنظيم الحياة اليومية. وهذا النموذج يرفض البيروقراطية ويعتمد على الأعراف المحلية في حل النزاعات وتوزيع الموارد. كما يدعو إلى استقلالية في إدارة الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة، ويُنظَر إليه كوسيلة لتعزيز الاستقرار المحلي، غير أن محدودية الموارد والبنية التحتية تُعَرْقِلُ تطوره (مجلة البيان).
وضمن الأوساط الأكاديمية والسياسية، تُطرَح رؤى للحكم الذاتي ترتكز على إعادة هيكلة الدولة عبر نظام الأقاليم، بحيث تُمنَح كل منطقة صلاحيات تشريعية وتنفيذية ضمن إطار وطني مُوَحَّد. وهذه الرؤية تستلهم نماذج من دول متعددة القوميات، وتدعو إلى توزيع عادل للثروات والسلطات. كما تُؤَكِّدُ على ضرورة وجود آليات رقابة ومساءلة فَعَّالَة، ويُنظَر إليها كحل وسط بين الانفصال والمركزية، لكنها تتطلب توافقًا سياسيًّا واسعًا.
وفي المناطق الحدودية، تتشكل مطالب ترتبط بالتحكم في المعابر والموارد العَابِرَةِ، حيث يسعى السكان إلى إدارة اقتصادية مستقلة تُعَزِّزُ من فُرَص التنمية المحلية. وهذه المطالب ترتبط بتجارب التهريب والتجارة غير الرسمية التي خلقت شبكات نفوذ محلية، وتدعو إلى تنظيم هذه الأنشطة ضمن إطار قانوني يضمن الشفافية. كما تطالب بتمثيل خاص في السياسات الجمركية والاقتصادية، ويُنظَر إليها كمدخل لإعادة دمج هذه المناطق في الاقتصاد الوطني.
أبعاد ودوافع تلك المطالب في ظل الدور الواضح للقوى الخارجية في المشهد:
وتتجذر دوافع المطالب المحلية في سوريا ضمن سياق التنافس الإقليمي والدولي على النفوذ، حيث تسعى بعض القوى الخارجية إلى ترسيخ نماذج حكم تتماشى مع مصالحها الإستراتيجيَّة. وهذا التدخل يُعَزِّزُ من فُرَص بعض الأطراف في فَرْض رؤى إدارية خاصة بها. كما أن الدعم العسكري والسياسي المُقَدَّمَ من الخارج يَخْلُقُ تفاوتًا في موازين القوى بين الفاعلين المحليين، ويؤدي ذلك إلى تبلور مطالب ذات طابع جِيُوسِيَاسِيٍّ أكثر من كونها نابعة من الحاجات المجتمعية، ما يثير تساؤلات حول استقلالية القرار المحلي.
فالتحولات في خارطة السيطرة العسكرية ساهمت في إعادة تشكيل الهويات السياسية للمناطق، حيث باتت بعض المجتمعات تنظر إلى الحكم الذاتي كوسيلة لحماية مكتسباتها. وهذا التوجه تُغَذِّيهِ تجارب ميدانية في الإدارة والخدمات، مدعومة أحيانًا من جهات دولية. كما أن غياب سلطة مركزية فَعَّالَة يفتح المجال أمام نماذج بديلة، ويُستخدَم الخطاب الحقوقي لتبرير هذه المطالب أمام الرأي العام العالمي، ممَّا يمنحها شرعية رمزية في المحافل الدولية.
وتسعى بعض القوى الدولية إلى إعادة هندسة المشهد السوري عبر دعم كيانات محلية تتبنى نماذج حكم مرنة، ما يَخْلُقُ بيئة خصبة لتعدد المطالب. وهذا التوجه يندرج ضمن إستراتيجيات احتواء النفوذ المنافس وتفكيك البنى التقليدية. كما ويُستخدَم كأداة ضغط في المفاوضات السياسية، ويؤدي إلى تعزيز الانقسام الإداري بين المناطق، ممَّا يُضْعِفُ فُرَص بناء منظومة وطنية مُوَحَّدَة في المدى القريب.
فالخطاب الإعلامي المُوَجَّه من الخارج يلعب دورًا في تشكيل الرأي العام المحلي حول جَدْوَى الحكم الذاتي، حيث تُروَّج نماذج مُعَيَّنَة باعتبارها أكثر عدالة وفعالية. وهذا التأثير يمتد إلى النُّخَب السياسية والمجتمعية التي تتبنى تلك الرؤى وتُعيد إنتاجها مَحَلِّيًّا. كما أن الدعم اللوجستي والتقني يساهم في ترسيخ هذه التصورات، ويُستخدَم التمويل الخارجي كوسيلة لتثبيت الهياكل الإدارية الجديدة، ممَّا يُعَمِّقُ الفجوة بين المناطق المختلفة.
فالفراغ القانوني الناتج عن تَعَثُّر العملية الدستورية يفتح المجال أمام القوى الخارجية لاقتراح صيغ حُكْم بديلة، غالبًا ما تكون مُصَمَّمَة لخدمة مصالحها الأمنية والاقتصادية. وهذا التدخل يَخْلُقُ نماذج هجينة يَصْعُبُ دمجها في إطار وطني شامل. كما أن غياب آليات رقابة محلية فَعَّالَة يجعل هذه النماذج عُرْضَة للتوظيف السياسي، ويؤدي إلى تآكُل الثقة بين المكونات المجتمعية، ممَّا يُعَزِّزُ مَنْطِق الانفصال الإداري بدلًا من التكامل.
ويمكن قراءة الدور الصهيوني الواضح في الجنوب السوري، إذ تُصَاغ طروحات الحكم الذاتي للدروز بما يخدم المصالح الإستراتيجيَّة الإسرائيلية طويلة الأمد في الإقليم بالمقام الأول. فالكيان الإسرائيلي يسعى إلى إقامة منطقة نفوذ خالصة في الجنوب السوري وفَرْض حظر طيران على كامل الجنوب، بما يضمن لإسرائيل السيطرة الفعلية على المنطقة. كما تعكس العلاقات بين الولايات المتحدة والإدارة الذاتية الكردية، تَمَسُّك واشنطن بطموحاتها الجِيُوسِيَاسِيَّة في سوريا وكامل المشرق العربي. وتطمح إيران هي الأخرى عن طريق تنظيم دِرْع الساحل السوري، إلى إقامة إقليم ذاتي الحكم للمكون العلوي، ما يضمن لإيران مَوْطِئَ قَدَم دائمًا على الأراضي السورية.
وفي ظل تعدد الرعاة الدوليين، تتنافس المطالب المحلية على نَيْل الاعتراف والدعم، ما يَدْفَعُ بعض الأطراف إلى تَبَنِّي شعارات تتماشى مع أجندات خارجية. وهذا التفاعل يَخْلُقُ حالة من التبعية الكاملة للرُّعَاةِ الخارجيين. كما أن التداخل بين المصالح المحلية والدولية يُضْعِفُ القدرة على صياغة مشروع وطني مستقل، ويؤدي إلى تَشَتُّت الأولويات بين التنمية والاستقرار والسيادة، ممَّا يجعل مستقبل الحُكْم في سوريا رهينًا لتوازنات خارجية متغيرة.
موقف السلطة السورية المؤقتة من مطالب الحكم الذاتي في ظل التحالفات المحلية مع القوى الخارجية:
وفي ظل ذلك المشهد، تتعامل السلطة السورية المؤقتة مع مطالب الحكم الذاتي بحذر سياسيٍّ، حيث تسعى إلى تحقيق توازن بين الحفاظ على وحدة البلاد والاستجابة للواقع الإداري المُتَشَظِّي. وفي هذا السياق، فَتَحَتْ قنوات حوار مع بعض الأطراف المحلية التي تَمْلِكُ نفوذًا مَيْدَانِيًّا، بهدف احتواء التصعيد وتفادي القطيعة. وهذا الانفتاح لا يعني تَبَنِّي نموذج لا مركزي شامل، بل يُستخدَمُ كأداة تفاوضية. كما أن الخطاب الرسمي يُرَكِّزُ على ضرورة التوافق الوطني، ويُطرَح مفهوم التعدد الإداري ضمن إطار السيادة الكاملة (تليفزيون سوريا).
ففي شمال شرق سوريا، تَبَنَّت الحكومة المؤقتة مُقَارَبَة مزدوجة تجاه الإدارة الذاتية، جَمَعَتْ بين التفاوض المؤسسي والضغط السياسي، وتم عَقْدُ اتفاقيات أولية مع قوات سوريا الديمقراطية، تَضَمَّنَتْ بنودًا تتعلق بإعادة هيكلة العلاقة بين المركز والمناطق ذات الخصوصية التنظيمية. وهذه الخطوة جاءت بعد توتر وصراع غير المباشر. كما أن التصريحات الرسمية أَكَّدَتْ على أهمية دمج المكونات المجتمعية في العملية السياسية، ويُنظَر إلى هذه التحركات كجزء من إعادة بناء الثقة الوطنية.
فالتحالفات المحلية المدعومة من الخارج تضع السلطة المؤقتة أمام تحديات مُعَقَّدَة، حيث تتداخل المصالح الإقليمية مع المطالب الإدارية. وبعض الكيانات المحلية تستند إلى دعم دولي لتثبيت نماذج حُكْم خاصة بها، ما يَخْلُقُ حالة من التنافس على الشرعية. وهذا الواقع يَدْفَعُ الحكومة إلى تَبَنِّي خطاب مَرِن دون تقديم تنازلات جوهرية. كما أن التنسيق الأمني مع بعض الفصائل يهدف إلى ضَبْط التوازن المَيْدَانِيِّ، ويُستخدَمُ هذا التنسيق كوسيلة لتقليص النفوذ الخارجي غير المُنْضَبِط.
وفي الجنوب السوري، واجهت السلطة المؤقتة اضطرابات ناتجة عن صراعات بين مكونات محلية، ما كَشَفَ عن هَشَاشَةِ البنية الأمنية والإدارية. وهذه الأحداث دَفَعَتْ الحكومة إلى مراجعة سِيَاسَاتِهَا تجاه المطالب المحلية، خاصةً في المناطق ذات الطابع المجتمعي المُتَمَايِزِ. كما أن النزوح الواسع الناتج عن العنف زاد من الضغوط على مؤسسات الدولة. وفي المقابل، تم إطلاق مبادرات تهدف إلى تعزيز الإدارة المحلية ضمن إشراف مركزي، ويُنظَر إلى هذه الإجراءات كاستجابة اضطرارية أكثر منها إستراتيجية.
ورغم التحديات، تسعى السلطة المؤقتة إلى بناء نموذج حُكْم يراعي التنوع المجتمعي دون التفريط بوحدة القرار السياسي. وهذا التوجه يتطلب إعادة صياغة العلاقة بين المركز والأطراف، بما يضمن التمثيل العادل والفعالية الإدارية. كما أن الضغوط الدولية تَفْرِضُ على الحكومة تقديم رؤى قابلة للتفاوض في المحافل الدبلوماسية، ويُستخدَمُ ملف الحكم المحلي كأداة لإعادة التموضع السياسي، ممَّا يجعل مستقبل هذه المطالب مرتبطًا بمدى قدرة السلطة على إدارة التوازنات الداخلية والخارجية.
المخاوف المختلفة للداخل السوري والمحيط الإقليمي من مطالب الحكم الذاتي:
كما تثير مطالب الحكم الذاتي قَلَقًا واسعًا داخل المجتمع السوري، إذ يخشى كثيرون من أن تؤدي إلى تفكك النسيج الوطني وتكريس الانقسامات المَنَاطِقِيَّة. وهذه المخاوف تنبع من تجربة الحرب الطويلة التي عَمَّقَتْ الهويات المحلية على حِساب الانتماء الوطني. كما أن غياب رؤية مُوَحَّدَة لإعادة بناء الدولة يزيد من هَشَاشَةِ الموقف الشعبي تجاه أي صيغة لا مركزية، ويخشى البعض من أن تتحول المطالب إلى أدوات نفوذ خارجي، ممَّا يُضْعِفُ فُرَص التماسك الداخلي في مرحلة إعادة الإعمار.
وفي أوساط النُّخَب السياسية، يُنظر إلى الحكم الذاتي كتهديد مُحتمل لوحدة القرار السيادي، خاصةً في ظل تعدد الجهات المسلحة ذات الولاءات المتباينة. وهذا القلق يرتبط بإمكانية نشوء سلطات مُوَازِيَة تتصرف بمَعْزِل عن الدولة المركزية. كما أن غياب آليات رقابة فَعَّالَة يفتح المجال أمام الفساد والتجاوزات، ويُخشى من أن يؤدي ذلك إلى صراعات جديدة بين الكيانات المحلية، ممَّا يُعِيدُ إنتاج حالة الفوضى تحت غطاء إداري جديد (وكالة أنباء آسيا).
ومن جهة أخرى: تبرز مخاوف اقتصادية تتعلق بتوزيع الموارد والثروات، حيث تخشى بعض المناطق من فِقْدَان حِصَّتِهَا في حال اعتماد نموذج إداري مستقل. وهذا التخوف يَتَضَاعَفُ في المناطق الفقيرة التي تعتمد على الدعم المركزي لتسيير شؤونها اليومية؛ كما أن التباين في البنية التحتية والخدمات يُهَدِّدُ بتكريس الفجوة التنموية، ويُنظَر إلى الحكم الذاتي كَخَطَر على العدالة الاجتماعية، ممَّا يثير توترًا بين الأطراف المختلفة حول أولويات التنمية.
وعلى المستوى الثقافي: يخشى كثيرون من أن تؤدي الصيغ المحلية للحكم إلى تهميش الهويات الوطنية الجامعة، لصالح تعبيرات فرعية قد تُستخدَمُ سياسيًّا. وهذا القلق يَتَّصِلُ بإمكانية فَرْض مناهج تعليمية أو رموز ثقافية لا تتوافق مع الهوية السورية العامة. كما أن تعدد المرجعيات قد يَخْلُقُ حالة من التنافر بين الأجيال، ويُنظَر إلى هذه التحولات كتهديد للترابط المجتمعي، ممَّا يَدْفَعُ بعض الفئات إلى رَفْض أي تغيير في النموذج الإداري.
وإقليميًّا: تنظر دُوَل الجوار وأبرزها تركيا إلى مطالب الحكم الذاتي في سوريا بعين الرِّيبَة، خَوْفًا من انتقال العدوى إلى مجتمعاتها المتعددة. وهذا التخوف يبرز بشكل خاص في الدول التي تواجه تحديات داخلية مُشَابِهَة، حيث يُخشى من أن تُستخدَمَ التجربة السورية كذريعة لتغذية مطالب انفصالية؛ كما أن بعض القوى الإقليمية ترى في الحكم الذاتي تهديدًا لتوازناتها الأمنية، ويُستخدَمُ هذا الملف كورقة ضغط في العلاقات الثنائية ممَّا يُعَقِّدُ فُرَص التوافق حول مستقبل سوريا (الشرق الأوسط).
فتركيا -على سبيل المثال- تُبْدِي قَلَقًا من أي نموذج إداري يمنح الأكراد صلاحيات واسعة قُرْب حدودها، خَشْيَةً من تأثير ذلك في وَضْعِهَا الداخلي. وهذا الموقف ينعكس في تدخلات مَيْدَانِيَّة تهدف إلى مَنْع ترسيخ أي كيان مستقل في الشمال السوري. كما أن الخطاب الرسمي التركي يَرْبِطُ بين الحكم الذاتي والإرهاب، ويُستخدَمُ هذا الربط لتبرير العمليات العسكرية، ممَّا يجعل المطالب المحلية رهينةً للتجاذبات الإقليمية.
ملامح النظام السياسي السوري خلال السنوات القادمة:
وتُشِيرُ التقارير الإعلامية الحالية وتصريحات المسؤولين السوريين والقوى المحلية، إلى أن سوريا دَخَلَتْ مرحلة انتقالية غير مستقرة بعد التغيرات الأخيرة في موازين القوى، ما يفتح الباب أمام إعادة تشكيل النظام السياسي من جذوره. وهذا التحول يَتَرَافَقُ مع محاولات مُتَبَايِنَة لإعادة بناء مؤسسات الدولة على أُسُس جديدة. كما أن غياب توافق وطني شامل يُضْعِفُ فُرَص صياغة نموذج سياسي متماسك، ويُتَوَقَّعُ أن تستمر حالة السُّيُولَةِ في تَبَنِّي شَكْل نهائي للحكم، ممَّا يجعل المشهد عُرْضَة للتجاذبات الداخلية والخارجية.
ومن بين السيناريوهات المطروحة، يبرز خيار الدولة اللامركزية كحل وسط بين المطالب المحلية والحاجة إلى وحدة وطنية. وهذا النموذج يعتمد على توزيع الصلاحيات بين المركز والمناطق دون المَسَاس بالسيادة العامة. ويُنظَر إليه كآلية لتقليص التوترات المجتمعية وتعزيز المشاركة السياسية، إلا أن تطبيقه يتطلب توافقًا دستوريًّا ومؤسساتيًّا مُعَقَّدًا. كما أن نجاحه مرهون بقدرة الأطراف على تجاوز الحسابات الفِئَوِيَّة.
وفي المقابل: يَطْرَحُ بعض الفاعلين خيار إعادة إنتاج النظام الرئاسي بصيغة مُعَدَّلَة، مع إدخال إصلاحات على آليات الرقابة والتوازن. وهذا الاتجاه يَلْقَى دعمًا من أطراف ترى في المركزية ضمانة للاستقرار، لكنه يواجه رَفْضًا من القوى التي تطالب بتوزيع أوسع للسلطات. كما أن التجربة العراقية والسودانية في الحكم الذاتي في إقليمي كردستان ودارفور، تثير شكوكًا حول فَعَّالِيَّة هذا النموذج في ظل التعدد المجتمعي، ممَّا يجعله خيارًا مَحْفُوفًا بالأخطار السياسية والاجتماعية.
والسيناريو الثالث يَتَمَثَّلُ في اعتماد نموذج اتحادي قائم على الأقاليم، حيث تُمنَحُ كل منطقة صلاحيات تشريعية وتنفيذية ضمن إطار وطني. وهذا النموذج يستلهم تجارب دُوَل متعددة القوميات، ويُطرَح كحل لتفادي الصراعات على الهوية، إلا أن تطبيقه في سوريا يواجه تحديات تتعلق بترسيم الحدود الإدارية وضمان العدالة في توزيع الموارد. كما أن بعض القوى الإقليمية تُعَارِضُ هذا التوجه خَشْيَةً من انعكاساته على أمنها الداخلي.
ومن جهة أخرى: هناك مَن يَدْعُو إلى تَبَنِّي نظام برلماني يُعَزِّزُ من دور الأحزاب والمجالس المنتخبة في صياغة السياسات العامة. وهذا النموذج يُنظر إليه كوسيلة لتقليص هيمنة الفرد على القرار السياسي، لكنه يتطلب بنية حزبية نَاضِجَة ومجتمع مدني فَعَّال، وهي عناصر لا تزال ضعيفة في السياق السوري. كما أن الانقسامات الأيديولوجية قد تُعَرْقِلُ تشكيل تحالفات مستقرة، ممَّا يجعل هذا الخيار نَظَرِيًّا أكثر منه عَمَلِيًّا في المدى القريب.
وفي ظل هذه السيناريوهات، تبقى ملامح النظام السياسي السوري رهينةً للتطورات المَيْدَانِيَّة والتفاهمات الدولية، فالتدخلات الخارجية تَلْعَبُ دورًا حاسمًا في رَسْم حدود الممكن السياسي. كما أن التوافقات بين القوى المحلية المسلحة والسياسية تَفْرِضُ واقعًا جديدًا على الأرض، ويُتَوَقَّعُ أن تستمر حالة السُّيُولَةِ السياسية لعدة سنوات قبل الوصول إلى صيغة نهائية، ممَّا يجعل مستقبل سوريا مفتوحًا على احتمالات متعددة ومُتَدَاخِلَة.
الخلاصة:
يتسم المشهد السوري الراهن بتعقيد بالغ ناتج عن تداخل المطالب المحلية مع الحسابات الإقليمية والدولية، ما يجعل مستقبل النظام السياسي مفتوحًا على احتمالات متباينة. إذ تتصارع الرؤى بين مَن يسعى إلى إعادة إنتاج المركزية بصيغة مُعَدَّلَة، ومَن يطمح إلى بناء هياكل إدارية متعددة المستويات. وفي ظل غياب توافق وطني شامل، تبرز الحاجة إلى صياغة نموذج سياسي قادر على استيعاب التنوع دون تفكك. فالتدخلات الخارجية تُضِيفُ طبقات من التعقيد، حيث تُستخدَمُ المطالب الإدارية كأدوات نفوذ. كما أن التفاوت في القدرات المحلية يَفْرِضُ تحديات على أي مشروع إصلاحي، ويبقى المسار السياسي مرهونًا بقدرة الأطراف على تجاوز الانقسامات وبناء عقد اجتماعي جديد.
المصادر: