هل يمكن لحلف الناتو أن يصمد في ظل التحديات الحالية؟ تحليل وتوقعات

دولية
هل يمكن لحلف الناتو أن يصمد في ظل التحديات الحالية؟ تحليل وتوقعات
١٤ دقيقةللقراءة
تاريخ النشر: ٣ ديسمبر ٢٠٢٥

حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الذي تأسس في عام 1949م كدرع دفاعي ضد التهديدات السوفيتية خلال الحرب الباردة، يقف اليوم عند مُفترَق طُرُق تاريخي. فمع تغيُّر المشهد الجيوسياسي العالمي بشكل جذري، وبروز قوَى جديدة مثل الصين، وتصاعد التوترات مع روسيا؛ بالإضافة إلى الشكوك المتزايدة حول التزام الولايات المتحدة بالتحالف؛ أصبح مستقبل الناتو موضع تساؤل كبير.

الناتو ليس مجرد تحالف عسكري، إنه رمز للتعاون الأمني بين الدول الديمقراطية التي تشترك في قيم الحرية والديمقراطية المزعومة. ويهدف هذا التحليل إلى استكشاف التحديات التي تواجه الناتو في عالَم اليوم المُتَغَيِّر، والسيناريوهات المُحتَمَلة لمستقبله في ظل تزايد النفوذ الصيني والروسي وتراجع الالتزام الأمريكي، مما يجعَلُ فهم هذه التحديات والفرص أمرًا ضروريًّا.

تاريخ الناتو.. من الحرب الباردة إلى عصر التحديات الجديدة:

التأسيس والأهداف الأولية:

تأسس حلف شمال الأطلسي (الناتو) في 4 أبريل 1949م كتحالف دفاعي غربي يهدف إلى مواجهة التهديدات الناشئة عن الاتحاد السوفيتي خلال فترة الحرب الباردة. جاء تأسيس الناتو ردًّا على التوسع السوفيتي في أوروبا الشرقية، حيث شعرت الدول الغربية بالحاجة إلى إنشاء كيان أمني جماعي لضمان استقرارها وحماية سيادتها.

فالميثاق التأسيسي للناتو نصَّ على مبدأ أساسي هو: "الهجوم على واحد هو هجوم على الكل" بموجب المادة الخامسة، مما يعني أن أي اعتداء على دولة عضو يُعَدُّ اعتداءً على جميع الدول الأعضاء، وبالتالي يتطلب ردًّا جماعيًّا.

خلال العقود الأولى من تأسيسه، لَعِبَ الناتو دَوْرًا مِحوريًّا في الحفاظ على الاستقرار الأمني في أوروبا الغربية، وكان الوجود العسكري للتحالف، وخاصة القوات الأمريكية المُتَمَرْكِزَة في أوروبا، بمثابة رادع قوي ضد أي محاولات سوفيتية للتوسع نحو الغرب. بالإضافة إلى ذلك، ساهَمَ الناتو في تعزيز التعاون العسكري والسياسي بين الدول الأعضاء؛ مما أدى إلى إنشاء نظام أمني مُتكامل سَاعَدَ في مَنْع نشوب حرب كبرى في القارة الأوروبية (1).

مَا بعد الحرب الباردة؟

مع انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991م، تَغَيَّر المشهد الجيوسياسي العالمي بشكل جذري، مما دَفَعَ الناتو إلى إعادة تعريف دَوْرِه ومَهَامِّه. في البداية، تَسَاءَل الكثيرون عن ضرورة استمرار التحالف في ظل اختفاء التهديد السوفيتي، لكن الناتو سرعان ما وَجَدَ لنفسه أدوارًا جديدة.

وبدأ التحالف في التوسع شرقًا، حيث انضمت دول من أوروبا الشرقية؛ مثل: بولندا والمجر وجمهورية التشيك، إلى الناتو في نهاية التسعينيات وأوائل الألفية الجديدة.

هذا التوسع أَدَّى إلى توترات كبيرة مع روسيا، التي رأت في انضمام دول كانت سابقًا ضمن نطاق نفوذها تهديدًا مُباشِرًا لأمنها القومي. روسيا اعتبرت توسع الناتو شرقًا بمثابة خَرْق للاتفاقات غير المُعْلَنَة التي تَمَّت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، والتي كانت تَفْتَرِضُ أن الناتو لن يتوسع نحو حدودها.

خلال هذه الفترة، تحوَّل الناتو من كونه تحالفًا دفاعيًّا تقليديًّا إلى مُنظَّمة تتعامل مع قضايا أمنية أوسع نطاقًا. بعد هجمات 11 سبتمبر 2001م، أصبح مكافحة الإرهاب أحد المهام الرئيسية للناتو، حيث قام التحالف بتنفيذ عمليات عسكرية في أفغانستان كجزء من مهمة "قوة المساعدة الأمنية الدولية" (ISAF). بالإضافة إلى ذلك، شارك الناتو في إدارة الأزمات الدولية، مثل التدخل في البلقان خلال حرب كوسوفو في التسعينيات.

التحديات الجديدة:

اليوم، يواجه الناتو مجموعة من التحديات غير المسبوقة التي تَدْفَعُه إلى إعادة تقييم دَوْرِه ومستقبله، وأول هذه التحديات هو صعود الصين كقوة عظمى ذات طموحات جيوسياسية واسعة النطاق. الصين، التي كانت حتى وقت قريب تُرَكِّزُ بشكل رئيسي على آسيا، بدأت تَـمُدُّ نفوذها إلى أوروبا وإفريقيا عبر مبادرات مثل "الحزام والطريق". هذا التوسع الصيني يَطْرَحُ تساؤلات حول كيفية تعامل الناتو مع التهديدات غير التقليدية التي تأتي من خارج نطاقه الجغرافي التقليدي.

التحدي الثاني يَتَمَثَّلُ في التوسع الروسي في أوروبا الشرقية، والذي تَجَلَّى بشكل واضح في الغزو الروسي لأوكرانيا في عام 2022م. هذا الغزو أَعَادَ إحياء المخاوف من عودة الحرب الباردة، حيث أَظْهَرَت روسيا استعدادها لاستخدام القوة العسكرية لتحقيق أهدافها الجيوسياسية. الناتو اضْطُرَّ إلى تعزيز وجوده العسكري في دول أوروبا الشرقية، مثل بولندا ودول البلطيق، كجزء من إستراتيجية الردع.

التحدي الثالث هو الشكوك المتزايدة حول التزام الولايات المتحدة بالتحالف. خلال إدارة ترامب، تَمَّ التشكيك في قيمة الناتو، حيث وَصَفَ الرئيس الأمريكي التحالف بأنه "عَقِيم" وطالَبَ الدول الأعضاء بزيادة إنفاقها الدفاعي. وعلى الرغم من أن إدارة بايدن أَعَادَت التأكيد على التزام الولايات المتحدة بالناتو؛ إلَّا أن الشكوك حول استمرارية هذا الالتزام في ظل إدارات أمريكية مُستقبلية تَظَلُّ قائمة.

هذه التحديات تَدْفَعُ الناتو إلى إعادة تقييم دَوْرِه ومستقبله. التحالف يَحتاج إلى التكيف مع عالَم مُتَغَيِّر، حيث التهديدات لم تَعُدْ تقتصر على القوى التقليدية، بل تَشْمَلُ أيضًا التحديات غير الملموسة مثل الحرب السيبرانية والتغير المناخي. مستقبل الناتو يعتمد على قدرته على التطور والاستجابة لهذه التحديات بفعالية (2).

التبَعِيَّات الاقتصادية والأمنية.. لماذا لا يزال الناتو ضروريًّا؟

العلاقات الاقتصادية:

التجارة بين الولايات المتحدة وأوروبا تُعَدُّ واحدة من أكبر وأهم العلاقات الاقتصادية على مستوى العالم، حيث تُمَثِّلُ تبادُلاتها التجارية ما يقرب من ثُلث التجارة العالمية. هذه العلاقة الاقتصادية المُتَشابِكَة تَعتمد بشكل كبير على الاستقرار الأمني الذي يُوَفِّرُه حلف شمال الأطلسي (الناتو). الأمن الذي يُقَدِّمُه الناتو ليس مجرد حماية عسكرية، بل هو أيضًا ضمانة لاستمرار التدفقات التجارية والاستثمارات بين الضفتين الأطلسية. أي تهديد للأمن الأوروبي، سواء كان من خلال صراعات عسكرية أو اضطرابات سياسية، يمكن أن يُؤَدِّي إلى اضطرابات اقتصادية عالمية واسعة النطاق.

على سبيل المثال: الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022م كان بمثابة اختبار حقيقي لكيفية تأثير الصراعات العسكرية في الاقتصاد العالمي. هذا الغزو أَدَّى إلى اضطرابات كبيرة في سَلاسِل التوريد العالمية، خاصة في قطاعي الطاقة والغذاء، حيث تَعتمد أوروبا بشكل كبير على واردات الطاقة من روسيا؛ بالإضافة إلى ذلك، فَرَضَت العقوبات الغربية على روسيا أَدَّت إلى ارتفاع أسعار الطاقة عالميًّا، مما أَثَّرَ في الاقتصادات في جميع أنحاء العالم. هذه الأحداث أَظْهَرَت بوضوح أن الأمن الأوروبي ليس قضية إقليمية فَحَسْبُ، بل هو عنصر حَيَوِيٌّ للاستقرار الاقتصادي العالمي (3).

القوة العسكرية الأمريكية في أوروبا:

الوجود العسكري الأمريكي في أوروبا يَلْعَبُ دَوْرًا مِحوريًّا ليس فقط في حماية الحلفاء الأعضاء في الناتو، ولكن أيضًا في الحفاظ على الاستقرار الإقليمي بشكل عام. القواعد العسكرية الأمريكية المُنتَشِرَة في أوروبا، مثل تلك الموجودة في ألمانيا وبولندا، تُعْتَبَرُ عناصر أساسية في إستراتيجية الردع ضد التهديدات المُحْتَمَلَة، خاصة من جانب روسيا. هذه القواعد تُوَفِّرُ قدرة عسكرية سريعة الاستجابة في حالة حدوث أي اعتداء، كما أنها تُعَزِّزُ الثقة بين الحلفاء بأن الولايات المتحدة ستكون موجودة لـدَعْمِهم في أوقات الأزمات.

على سبيل المثال: القاعدة الأمريكية في مدينة "بُوڤيدزي" ببولندا، والتي تَمَّ إنشاؤها بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في عام 2014م، تُعْتَبَرُ واحدة من أهم النقاط الإستراتيجية في إستراتيجية الناتو لردع التوسع الروسي. هذه القاعدة ليست مجرد رمز للوجود الأمريكي، بل هي أيضًا جزء من نظام دفاعي مُتكامل يَشْمَلُ نَشْرَ القوات والمعدات العسكرية المتقدمة في دول أوروبا الشرقية.

أي انسحاب أمريكي من الناتو، أو حتى تقليل الوجود العسكري الأمريكي في أوروبا، قد يَخْلُقُ فَرَاغًا أمنيًّا تَسْتَغِلُّهُ القوى الأخرى، خاصة روسيا. هذا الفراغ قد يُؤَدِّي إلى زيادة التهديدات الأمنية في المنطقة، مما قد يَدْفَعُ الدول الأوروبية إلى البحث عن بدائل أمنية، مثل تعزيز التعاون العسكري بينها أو حتى السعي لإنشاء جيش أوروبي مُوَحَّد. ومَعَ ذلك، فإن مثل هذه الخطوات ستستغرق وقتًا طويلاً وقد لا تكون بنفس فعالية الوجود الأمريكي المُباشِر.

بالإضافة إلى ذلك، الوجود العسكري الأمريكي في أوروبا يُعَزِّزُ العلاقات الإستراتيجية بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، حيث إن هذا الوجود يَعْكِسُ التزامًا طويل الأمد بالأمن الأوروبي. أي تراجع في هذا الوجود قد يُضْعِفُ الثقة بين الحلفاء ويُعطِي إشارات خاطئة للخصوم المُحْتَمَلين، مما قد يُؤَدِّي إلى تفاقم التوترات الإقليمية (4).

الصين وروسيا.. التهديدات الجديدة للناتو:

الصين:

مع توسع نفوذ الصين في آسيا الوسطى وإفريقيا عبر مبادرات طموحة مثل "الحزام والطريق"، بدأت بكين تَلْعَبُ دَوْرًا مُتزايد الأهمية في الشؤون العالمية؛ هذه المبادرة التي تهدف إلى تعزيز البنية التحتية والتجارة بين الصين ودول العالم، تَعْكِسُ إستراتيجية صينية طويلة الأمد لتعزيز نفوذها الاقتصادي والسياسي. الصين لم تَعُدْ قوة إقليمية فَحَسْبُ، بل أصبحت لاعِبًا رئيسيًّا على الساحة الدولية، حيث تسعى إلى إعادة تشكيل النظام العالمي لصالحها.

غياب الناتو أو ضَعْفُه قد يَـمْنَحُ الصين حُرِّيَّة أكبر في تعزيز نفوذها، خاصة في المناطق التي تَعتبرها ذات أهمية إستراتيجية، مثل بحر الصين الجنوبي. في هذه المنطقة، تُطَالِبُ الصين بسيادتها على جُزُر ومياه مُتَنازَع عليها مع دول مثل فيتنام والفلبين وماليزيا. أي تراجع في دَوْر الناتو قد يُشَجِّعُ الصين على اتخاذ خطوات أكثر جُرْأةً في هذه المناطق، مما قد يُؤَدِّي إلى تصاعد التوترات الإقليمية.

بالإضافة إلى ذلك: فإن قضية تايوان تَظَلُّ واحدة من أكثر القضايا الحساسة في العلاقات الدولية. الصين تَعتبر تايوان جزءًا لا يتجزأ من أراضيها، بينما تَدعَمُ العديد من الدول، بما في ذلك الولايات المتحدة، استقلال تايوان بشكل غير مُباشِر. ضَعْفُ الناتو قد يَدْفَعُ الصين إلى زيادة ضغوطها على تايوان، سواء عبر التهديدات العسكرية أو الإجراءات الدبلوماسية، مما قد يُؤَدِّي إلى أزمة دولية كبرى.

الصين تُراقِبُ عَنْ كَثَبٍ تطورات الناتو، حيث إن أي ضَعْف في التحالف قد يُعَزِّزُ من قدرتها على تحقيق أهدافها الجيوسياسية. بكين تَعتبر الناتو عَقَبَة رئيسية في طريقها لتصبح القوة العظمى المُهَيْمِنَة عالميًّا، وبالتالي فإن أي تراجع في دَوْر الناتو سيكون بمثابة فرصة ذهبية للصين لتعزيز نفوذها (5).

روسيا:

بالنسبة لموسكو، ضَعْفُ الناتو يَعنِي فرصة لتعزيز نفوذها في أوروبا الشرقية، وهي المنطقة التي تَعتبرها روسيا ضِمنَ نطاق نفوذها التقليدي. الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022م كان بمثابة اختبار حقيقي لقدرة الناتو على الرَّدِّ على التهديدات الجديدة. هذا الغزو لم يكن مجرد محاولة لضَمِّ أراضٍ أوكرانية، بل كان أيضًا رسالة واضحة من روسيا إلى الناتو والدول الغربية بأنها لن تتردد في استخدام القوة العسكرية لتحقيق أهدافها الجيوسياسية.

إذا استمر الناتو في التضاؤل أو فَقَدَ جزءًا من فعاليته، فقد تَزيد روسيا من ضغوطها على دول أخرى في أوروبا الشرقية، مثل بيلاروس ومولدوفا، وحتى دول البلطيق (إستونيا ولاتفيا وليتوانيا). هذه الدول، التي كانت سابقًا جزءًا من الاتحاد السوفيتي، تُعْتَبَرُ من قِبَل روسيا مناطق نفوذ طبيعية. أي محاولة من هذه الدول للانضمام إلى الناتو أو تعزيز علاقاتها مع الغرب قد تُواجه ردود فعل عنيفة من موسكو.

على سبيل المثال: بيلاروس التي ترتبط بعلاقات وثيقة مع روسيا، قد تُصبح ساحة لتصعيد جديد إذا قررت موسكو زيادة نفوذها هناك. بالإضافة إلى ذلك، فإن أي ضَعْف في الناتو قد يُشَجِّعُ روسيا على زيادة تدخلها في الشؤون الداخلية لدول أوروبا الشرقية، سواء عبر الدعم العسكري للجماعات الانفصالية أو عبر الحَمَلات الإعلامية والسياسية المُكَثَّفَة.

الغزو الروسي لأوكرانيا أَظْهَرَ أيضًا أن روسيا مُستَعِدَّة لـتَحَمُّل التكاليف الاقتصادية والسياسية الباهظة لتحقيق أهدافها. العقوبات الغربية التي فُرِضَت على روسيا بعد الغزو لم تَمْنَع موسكو من مُوَاصَلة سياستها العدوانية. فإذا شَعَرَت روسيا بأن الناتو يَفقِدُ قوته أو تماسُكَه، فقد تَزيد من حِدَّة تحركاتها في المنطقة، مما يُعَقِّد المشهد الأمني في أوروبا الشرقية ويُهَدِّدُ الاستقرار الإقليمي.

في النهاية: فإن مستقبل الناتو سيكون له تأثير كبير في كيفية تعامل روسيا مع جيرانها. إذا تَمَكَّن الناتو من الحفاظ على وحدته وقوته، فقد يكون قادرًا على رَدْع المزيد من التحركات الروسية العدوانية. ولكن إذا ضَعُفَ الناتو، فقد تَشْهَد أوروبا الشرقية مزيدًا من التوترات والصراعات، مما يُعِيدُ المنطقة إلى حِقبة من عدم الاستقرار والتنافس الجيوسياسي الحاد (6).

أوروبا: هل يمكنها أن تَقُود بدلًا من الناتو؟

الشكوك حول التزام الولايات المتحدة:

مع تزايد الشكوك حول استمرار التزام الولايات المتحدة بحلف شمال الأطلسي (الناتو)، بدأت بعض الدول الأوروبية في استكشاف سُبُل لإنشاء نظام أمني مُستقِل يَعتمد بشكل أقل على القوة العسكرية الأمريكية. فرنسا، على وجه الخصوص، كانت من أبرز الداعين إلى تعزيز "الاستقلال الإستراتيجي" لأوروبا. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أَكَّدَ مِرارًا على ضرورة أن تكون أوروبا قادرة على حماية نفسها دون الاعتماد الكُلِّي على الولايات المتحدة، خاصة في ظل التقلبات السياسية الأمريكية وتصريحات بعض القادة الأمريكيين التي تُشَكِّكُ في قيمة الناتو.

هذه الدعوات تأتي في إطار مخاوف أوروبية من أن التزام الولايات المتحدة بالتحالف قد يَتَضَاءَلُ في المستقبل، خاصة مع تصاعد النزعات الانعزالية في السياسة الأمريكية. فخلال إدارة ترامب، على سبيل المثال، تَمَّ التشكيك بشكل علني في جَدْوَى الناتو، حيث وَصَفَه الرئيس الأمريكي بأنه "عَقِيم" وطالب الحلفاء الأوروبيين بزيادة إنفاقهم الدفاعي. وعلى الرغم من أن إدارة بايدن أَعَادَت تأكيد التزام الولايات المتحدة بالناتو، إلا أن الشكوك حول استمرارية هذا الالتزام في ظل إدارات أمريكية مُستقبلية تَظَلُّ قائمة.

التحديات الداخلية:

ومع ذلك يواجه الاتحاد الأوروبي تحديات كبيرة في تحقيق حُلْم "الاستقلال الإستراتيجي"؛ أحد أبرز هذه التحديات هو عدم وجود بنية عسكرية مُوَحَّدَة وقوية. على الرغم من وجود بعض المُبادرات الأوروبية المشتركة، مثل "التعاون المُنَظَّم الدائم" (PESCO)، إلَّا أن هذه الجهود تَظَلُّ محدودة مُقارنةً بالقوة العسكرية التي يُوَفِّرُها الناتو بقيادة الولايات المتحدة. بالإضافة إلى ذلك، فإن غياب المملكة المتحدة بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي (بريكست) أَضْعَفَ من القدرة العسكرية الأوروبية، حيث كانت بريطانيا واحدة من أكبر المُساهِمين في الدفاع الأوروبي.

التحدي الآخر يَتَمَثَّلُ في الانقسامات السياسية الداخلية داخل الاتحاد الأوروبي. الحركات الشَّعْبَوِيَّة في العديد من الدول الأوروبية، مثل إيطاليا والمجر وبولندا، غالبًا ما تُعَارِضُ تعزيز التعاون العسكري الأوروبي، حيث تَرَى فيه تهديدًا لسيادتها الوطنية. هذه الانقسامات تَجْعَلُ من الصعب تحقيق التوافق المطلوب لإنشاء نظام أمني أوروبي مُوَحَّد وفعَّال (7).

التخطيط للمستقبل.. ماذا بعد الناتو؟

إعادة تشكيل الناتو:

أحد السيناريوهات المُحتَمَلَة لمستقبل الناتو هو إعادة تشكيله ليكون أكثر تركيزًا على التهديدات غير التقليدية التي تواجه العالم في القرن الحادي والعشرين. هذه التهديدات تَشْمَلُ الإرهاب الدولي، والتغير المناخي، والأمن السيبراني. فالناتو يمكن أن يَتَحَوَّلَ من كونه تحالفًا دفاعيًّا تقليديًّا إلى مُنظَّمة أمنية شاملة تتعامل مع قضايا مثل حماية البنية التحتية الحَيَوِيَّة من الهجمات السيبرانية، أو تقديم المساعدة في حالات الكوارث الطبيعية الناجمة عن التغير المناخي. هذا التحول قد يَجْعَلُ الناتو أكثر مُلاءَمَةً للتحديات الجديدة وأكثر جاذبية للدول الأعضاء.

ظهور تحالفات جديدة:

إذا انهار الناتو أو فَقَدَ جزءًا كبيرًا من فعاليته، فقد نَشْهَدُ ظهور تحالفات إقليمية جديدة. وعلى سبيل المثال، دول أوروبا الشرقية، التي تَشْعُرُ بالتهديد من روسيا، قد تَعمل مَعًا لإنشاء تحالف دفاعي خاص بها. في الوقت نفسه، قد تُعَزِّزُ دول أوروبا الغربية، مثل فرنسا وألمانيا، تعاونها مع الولايات المتحدة في إطار تحالفات أصغر وأكثر مُرونة. هذه التحالفات الجديدة قد تكون أكثر تركيزًا على التهديدات الإقليمية المُحَدَّدَة، ولكنها قد تَفْتَقِرُ إلى القوة الشاملة التي يُوَفِّرُها الناتو (8).

عودة الصراعات القومية:

في غياب الناتو قد تَعُودُ الصراعات القومية والعِرقية إلى الواجهة، خاصة في مناطق مثل البلقان، حيث لا تزال التوترات قائمة. دول مثل صربيا وكوسوفو والبوسنة والهرسك قد تَشْهَدُ تصاعُدًا في النزاعات إذا لم يكن هناك تحالف قوي قادر على فَرْض الاستقرار. هذا قد يُؤَدِّي إلى عدم استقرار إقليمي واسع النطاق، مع تداعيات خطيرة على الأمن الأوروبي والعالمي (9).

الخلاصة:

إذا قررت الولايات المتحدة الانسحاب من حلف شمال الأطلسي (الناتو) أو تقليص مُشاركتها فيه بشكل كبير، فقد لا يَبْقَى الحلف في شكله الحالي. وقد يَشْهَدُ الناتو تحوُّلًا جذريًّا، حيث لم يَعُدْ يَعتمد على القيادة العسكرية الأمريكية التي كانت عمودَه الفقري منذ تأسيسه. في مثل هذا السيناريو، قد تَضْطَرُّ الدول الأوروبية، وخاصة أعضاء الاتحاد الأوروبي، إلى التفكير في تشكيل تحالف دفاعي مُستقِل مُنْفَصِل عن الولايات المتحدة. مثل هذا التحالف قد يُسَهِّلُ تعزيز التعاون الدفاعي بين الدول الأوروبية، ولكنه قد يُوَاجِهُ أيضًا تحديات كبيرة في تحقيق التنسيق والقيادة الفعَّالة.

تاريخيًّا: لَعِبَ الناتو دَوْرًا مِحوريًّا كتحالف عالمي تحت القيادة الأمريكية، لكنه قد يَتَحَوَّلُ الآن إلى مُنظَّمة إقليمية تُرَكِّزُ بشكل أساسي على الشؤون الأوروبية. ومَعَ ذلك، فإن انسحاب الولايات المتحدة أو تقليص دَوْرِها قد يُعَرِّضُ الناتو لـخَطَر التآكُل، مما يَترُكُ أوروبا في موقف ضعيف أمام التهديدات الخارجية، وخاصة من روسيا.

بدون الالتزام الأمريكي الواضح بالدفاع عن أراضي الحلفاء، قد يَرَى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فرصة لتعزيز نفوذه في المناطق التي يَعتبرها ضِمنَ نطاق مصالح روسيا. ولقد أَظْهَرَ بوتين بالفعل استعدادَه لاستخدام القوة العسكرية لتحقيق أهدافه، كما حدث في جورجيا عام 2008م وأوكرانيا عام 2014م و2022م. إذا لم تكن دول مثل جورجيا وأوكرانيا أعضاء في الناتو، فقد تُصبح دول البلطيق (إستونيا ولاتفيا وليتوانيا) الهدف التالي لروسيا. وقد يَرَى بوتين أيضًا فرصة لاستعادة المزيد من الأراضي الأوكرانية دون وجود "ظِلِّ" الناتو لـحِمَايَتِها.

في عالَم يَزداد تعقيدًا، يَتَطَلَّبُ مواجهة التهديدات الجيوسياسية الكبرى تعاونًا جماعيًّا قويًّا بين القوة العسكرية والدبلوماسية. ومَعَ ذلك، فإن انسحاب الولايات المتحدة من الناتو قد يُؤَدِّي إلى فَرَاغ أمني خطير، حيث إن الدول الأوروبية قد لا تكون قادرة على تعويض الدَّوْر الأمريكي في الردع العسكري والدعم الإستراتيجي. هذا الفراغ قد يُشَجِّعُ روسيا على المزيد من التحركات العدوانية، خاصة في ظل غياب التنسيق والتعاون الفعَّال بين الحلفاء.

علاوة على ذلك: فإن أي تراجع في دَوْر الناتو قد يَعْكِسُ تحوُّلًا أوسع في النظام الدولي، حيث تسعى قِوَى مثل روسيا والصين إلى إعادة تشكيل النظام العالمي لصالحها. في هذا السياق، قد تُصبح أوروبا أكثر عُرضةً للضغوط الجيوسياسية، خاصة إذا لم تتمكن من بناء نظام أمني مُستقِل وفعَّال.

في النهاية: فإن مستقبل الناتو يَعتمد على قدرته على التكيف مع التحديات الجديدة، سواء كانت تهديدات تقليدية من روسيا أو صين، أو تهديدات غير تقليدية مثل الإرهاب والتغير المناخي. ومَعَ ذلك، فإن أي تراجع في التزام الولايات المتحدة بالتحالف قد يُؤَدِّي إلى تحولات جذرية في المشهد الأمني العالمي، مع عواقب بعيدة المدى على الاستقرار الإقليمي والدولي.

المصادر:

1_العربية

2_الجزيرة

3_ مركز البيان

4_ مركز رع للدراسات

5_ بي بي سي

6_ سبوتنك

7_ الشرق

8_ فرانس 24

9_ سي إن إن

الكلمات المفتاحية

الناتوروسياالاتحاد الأوروبيالولايات المتحدة